شهادتي كحيٍّ بالصدفة في انفجار 4 آب: المدينة، الأَهراءات، الميسيسيبي

كتب جهاد الزين في “النهار”:

منذ أصبحت بناتي بشكل نهائي خارج لبنان كنت قد حذفتُ حرب 1975 – 1990 من جهاز التعداد ومحطاته في ذاكرتي. في الحقيقة “شطبتْ” تلك الحربُ نفسَها أو سقطتْ هي من فجوة تدريجياً في أسفل الذاكرة.

أعادها إليّ، جسداً ومشاعر وأفكاراً، انفجارُ 4 آب.

كان يمكن أن أكون أحد قتلى الانفجار، مثل كثيرين. أنا أو رغدا زوجتي. كنتُ أجلس على مقعد في زاوية غرفة مكتبي في البيت أقوم برياضتي اليومية وهي تحريك دواسات دراجة ثابتة بلا عجلات وإذا بالانفجار الأول القوي يحصل وشاهدتُ رغدا تركض من غرفة مجاورة نحوي لتسألني مذعورةً ما هذا الانفجار قلت لها وقد حضرت في ذهني بعض “خبرات” الحرب الأهلية أن تبتعد عن الشرفات وأنه على الأرجح قذيفة أو صاروخ من طائرة إسرائيلية على هدف ما في بيروت أو الضاحية. لم يكن “سيناريو” المرفأ أو شيء يتعلق بالمرفأ ليحضر في ذهني على الإطلاق. وفي ما كنا نلملم ارتباكَنا الأوّليَّ وقع الانفجار الثاني فشعرتُ أن شقتنا، ومعها كل البناية، تتمايل بشكل مرعب كأنه زلزال.ثم سمعنا انهيار زجاج قريب تبيّن لاحقا أنه سقط على الكرسي التي كانت تجلس عليها رغدا أمام مكتبها الصغير في غرفة النوم نفسها بينما أعمل أنا عادةً في غرفة المكتبة.

ها نحن إذن ننجو من أذى محتّم. لم ينفجر الزجاج المواجه لي على بعد بضعة أمتار ورغدا لم تكن جالسة على مكتبها وإلا كنا لا زلنا ننظف شظايا الزجاج المنفجر من جسدها إلى اليوم أو ربما من جسدي.

هذه لحظة حرب إذن من تلك التي تَشارَكْنا فيها منذ تزوجنا عام 1977 ، هي عروس دمشقية اختارت أن تلتحق بالشاب اللبناني الآتي من حرب ضروس والعائد إليها وأنا أشقّ طريقي صحافيا ومحاميا متدرجا قبل أن أحسم تردّدي مرغماً بين المهنتين.

بدأ الأطفال يضيئون حياتنا، عزة وديالا ومروى ولكن مع كل ولادة جديدة كانت السعادة تتداخل مع الخوف على المصير وتزيد التهاب المشاعر وقد أصبح لبنان مجتمع حرب.

شعرت في تلك اللحظات من انفجار 4 آب أنني عدت إلى المسلسل اليومي القديم. عادت ماكينة المقارنات تعمل على عدّاد الحرب:

ماذا لو وقع الانفجار ذات يوم من عام 2017 وكنت بناء على اقتراح ابنتي عزة الآتية من ملبورن بدعوة من منظمة لبنانية لإلقاء محاضرة في مجال علاقة الفنون بالهوية قد رافقتها في جولة على عدد من صالات عرض اللوحات الفنية التي أخذت آنذاك تتكاثر في المحيط القريب جدا للمرفأ وعلى مسافة أمتار من مداخله.

عَلِمْنا ككل اللبنانيين والكرة الأرضية لاحقا أن نيترات الأمونيوم كانت موجودة في أحد المستودعات على مرفأ بيروت منذ العام 2014، فماذا كان يمنع أن تنفجر ذلك اليوم عام 2017 أو غيره وتبيدني مع ابنتي فيما نحن في جوار المرفأ الملاصق كما أبادت غيرَنا من سيئي وسيئات الحظ بل ماذا كان يمنع أن يدمّر الانفجار بيتي الحالي نفسه في شارع مي زيادة في منطقة القنطاري لولا مصادفات، محض مصادفات، في المسافة واتجاه الانفجار و سد أَهراءات القمح غرب العنبر المباشر الذي حال دون تدمير مساحة أوسع من غرب بيروت كما حصل في شرق بيروت.

ما الذي منع، غير الصدفة، أن لا أكون في مكتبي في “النهار” المواجه جداره الزجاجي مباشرة للمرفأ والمطل على أَهراءات القمح، أحد قتلى الانفجار فتنجيني صدفة الغياب كما نجّت العديد من الزملاء من موت محتّم أو كما شاءت الأقدار أن تكون الإصابات محدودة بين الزملاء والزميلات الحاضرين رغم تفاوت مواقع الوقوف والجلوس وبالتالي درجات الإصابات. وقع الانفجار في التوقيت المفضل عندي للجلوس في مكتبي في “النهار” وهو توقيت اقتراب الغروب صيفاً الذي يتيح بعض المراجعات الهادئة لمواد ومنشورات أو بريد أو بعض اللقاءات مع أصدقاء وزملاء.

اليوم ومنذ 4 آب 2020 أقول: بوركت هذه الأَهراءات حيةً وميتةً، سواء أعيد بناؤُها أو بقيت مدمرةً كأنها أعمدة بعلبك الجديدة في المدينة المنكوبة. الأَهراءات التي طالما كنت أعتبرها بشعة عمرانيا مثل عدد من البنايات المعدنية والزجاجية وأراها، الأَهراءات، بمعزل عن دورها التخزيني المهم للقمح علامة من علامات الانفلات العمراني الباطوني لبيروت. أما اليوم فقد تغيّر موقفي عاطفيا وفنيا وثقافيا وأراها بشكل مختلف. طالما اعتبرتُ نفسي محظوظا بأن مكتبي مثل كل الواجهات الشرقية لمبنى “النهار” مطلٌ على فسحة شاسعة مريحة للأعصاب تبدأ من واجهة جبل صنين الغربية الرائعة ببياضها الثلجي شتاءً إلى مرفأ بيروت وساحة البرج كل الفصول. هل اهتزّ جبل صنّين من مكانه بعد الانفجار؟ دائماً أسأل وأحاول أن أتأكّد بأن لا يكون فضاء الانفجار قد تغيّر أو غيّر بحكم الصخب الوجودي الذي أثاره.

ما الذي منع، غير الصدفة، يوم 4 آب أن لا أكون أنا أو أحد أفراد عائلتي ماراً على الطريق بين وسط المدينة والطريق البحري أمام المرفأ، الطريق الذي سلَكْتُه أنا وعائلتي وأصدقائي ومعارفي عشرات بل مئات المرات والذي يسلكه كل متنقِّل بين أقسام بيروت بشكل دائم فتتحطم سيارتي أو السيارة التي تقلني و ترمي الريح “النووية” جثتي على قارعة الطريق.

كلنا، عدا ضحايا المرفأ من قتلى ومصابين سيئي الحظ، أحياء بالصدفة في ذلك اليوم.

عاد عدّادُ الحرب:
ما الذي حال، عام 1975 على كورنيش المزرعة غير الصدفة أن لا تنفجر في أسفل سيارتي القنبلة المخبأة في كتلة رمل عَبَرْتُ فوقها وشاهدتُ عناصر الميليشيا يصرخون ويرمون أنفسهم على جانبي الطريق منتظرين انفجار وربما احتراق سيارتي “الميني كوبر” ومن فيها وكان إلى جانبي أنا سائق السيارة الزميل والصديق حسن داوود الذي سيصبح لاحقا أحد أبرز الروائيين اللبنانيين؟

ما الذي منع غير الصدفة أن أكون عابراً عند النقطة من منطقة الصنوبرة في رأس بيروت التي انفجرت فيها سيارة مفخخة اغتالت قائد المخابرات الفلسطينية أبو حسن سلامة في ذلك الوقت من بعد ظهر أحد أيام العام 1979 وكنت أستعد لمغادرة منزلي القريب في ساقية الجنزير متوجِّهاً كعادتي سيرا على الأقدام أو أحيانا في سيارتي كل يوم ذهابا وإيابا إلى ومن جريدة “السفير” القريبة في نزلة السارولا فأكون بين عشرات القتلى الذين سقطوا يومها؟

ماالذي منع، غير الصدفة، أن تحترق سيارة التاكسي التي كانت تقل رغدا وعزة وديالا في ذلك اليوم من العام 1982 وكانت الدبابات الإسرائيلية قد تجاوزت نقطة ال40 كيلومترا وعبرت صيدا ولم أكن أعرف عندما قررتُ إرسال عائلتي الصغيرة إلى بيت أهل زوجتي في دمشق أن الدبابات الإسرائيلية وصلت إلى عين دارة في الجبل وبدأت تطلق النار على القوات السورية في المديرج مما أدّى في تلك الفترة من بعد الظهر إلى احتراق سيارة مدنية بركابها. ظللتُ على أعصابي شبه المنهارة في مكتبي في “السفير” حتى وصلني اتصال هاتفي من رغدا أنها أصبحت مع ابنتينا في منزل أهلها في “حي القصور” ، ولم تكن مروى وُلِدتْ بعد، في دمشق القريب من ساحة العباسيين. فكان ذلك أجمل اتصال هاتفي تلقيته في حياتي.

ما الذي منع، غير الصدفة، أن القذيفة التي أُطْلِقت من شرق بيروت في تلك الليلة الساخنة عام 1989 والتي أصابت مجرى الوقود في مستشفى الجامعة الأميركية لو انفجرت تلك الليلة لحوّلت مبنى المستشفى والمرضى والعاملين إلى دمار كامل وكانت زوجتي تلك الليلة قد انتقلت إلى غرفة في المستشفى بعد ولادتها هناك على يد طبيبها الدكتور عدنان مروة طال عمره لابنتنا الثالثة والصغرى مروى. أتذكّر أن الذي أخبرني بذلك هو الدكتور مروة يومها وهو يهنئني مرتين بالسلامة، سلامة الإنجاب، الأم والطفلة، وسلامة عدم الانفجار نقلا عن مدير المستشفى. في تلك التهنئة قال لي مروة مازحا باعتبار مروى البنت الثالثة: كل شيىء عظيم سوى أنها بنت!

ما الذي منع في تلك الليلة التي سقطت فيها قذيفتان على مبنى “السفير” في الحمراء إحداها قرب سيارتي التي لم أفهم لليوم كيف بقيت سالمة فيما عدد من السيارات حولها مصاب إصابات بالغة في الزجاج والمعدن. ما الذي منع، غير الصدفة، في تلك الليلة المتوحشة أن لا أكون وعائلتي أحد سيئي وسيئات الحظ المقتولين والمجروحين في القصف المتبادَل بين غرب وشرق بيروت؟

ما الذي منع، غير الحظ، أن لا تصيبني قذيفة الهاون التي سقطت أمامنا مباشرةً وعلى مسافة أقل من خمسين مترا على حائط مجاور لمبنى السفارة الجزائرية في “بير حسن” وأنا انتقل مع شقيقتي مها بعد يومين إلى قريتي جبشيت في قضاء النبطية لأذهب مع ابنتيّ عزة وديالا من هناك إلى دمشق للالتحاق ببقية العائلة.

ما الذي منع، غير الصدفة، في ليلة لاحقة عام 1984 أن تخترق شظية حادة من قذيفة تطلق شظايا لمزيد من الإذية اخترقت أعلى مقعد جلوسي وراء مكتبي في الطابق الرابع في “السفير” على جهة الرقبة وكنت قبل أقل من دقيقة قد انتقلت لمحادثة زميل لي في مكتب مجاور. ولا زلت أحتفظ بالشظيّة بين كتبي وأرشيف صوري:

ورصاصٌ حمّلناهُ جميع رسائلنا هل بلّغ أحشاءك أم طاشْ؟ (محمد العبدالله)

ما لذي منع، غير الصدفة، أن أغادر مدينة نيو أورليينز مع رغدا وعزة وكنا ذهبنا من هيوستن بعد حضور حفل تخرج عزة من كلية الاقتصاد في جامعة “تكساس إي إم” إلى تلك المدينة التي كانت من ضمن حصة الولايات المتحدة الأميركية التي باعها نابوليون بونابرت عام 1803 لواشنطن (صفقة لويزيانا)، ما الذي منع، غير الصدفة أن نغادر نيو أورليينز ساعات قليلة قبل بدء الفيضان القاتل الذي تسبّبت به العواصف والأمطار على نهر الميسيسيبي العملاق وأدى إلى إغراق كامل المدينة والتسبب بقتل وجرح وغرق آلاف السكان (1800 قتيل)، وكنا نحن قررنا المغادرة بسبب سوء الطقس الذي ظهر وخرجنا من المدينة بسيارة عزة تحت وابل أمطار شديدة لنعرف لاحقا بعدما وصلنا إلى هيوستن خلال سبع أو ثماني ساعات أن نكبة المدينة بدأت وأن النهر العملاق غاضب إلى هذا الحد بعدما دمّر كل الحواجز الاصطناعية الموضوعة تاريخيا لضبط مياهه خصوصا داخل المدينة المحاطة بمستنقعات شاسعة.

نيو أورليينز مدينة ولادة موسيقى الجاز (المرتبطة بمعاناة تجارة العبيد) والحي الفرنسي التاريخي الذي لا أعرف ماذا بقي منه بعد الفيضان هي أيضا كبيروت ساهم مؤسِّسوها الفرنسيون في صياغة شخصيتها ولكن ربما بنسبة أقل من بيروت التي كادت تكون كمرفأ ومدينة مزدهرين “صناعة” فرنسية عثمانية عندما أدّى قرار الحكومة الفرنسية بمد خط سكة حديد من دمشق إلى بيروت إلى تعزيز مكانتها التجارية والحداثية وبالتالي جعلها مركز استقطاب ثقافي فرنسي وأنغلوساكسوني

ما الذي منع، غير الصدفة، أن أكون قد نجوت وعائلتي، ومثلي كثيرون، من عشرات الاحتمالات المماثلة وبعضها لن أطيل سرده هنا ضنّاً بوقت القارئ ومزاجه المكتئب فكيف بضحايا انفجار 4 آب.

أنا من أحياء الصدفة مثل كل اللبنانيين الأحياء منذ العام 1975.

ما الذي، غير الصدفة، سيمنع أو لن يمنع…..في مدينة الموت المتكرر التي هي مدينة كثرة الآلهة لا وحدة الله رغم كثافة الكنائس والجوامع.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us