مصرف لبنان وصراع الورثة

كتب نيكولا صبيح لـ”Ici Beyrouth“:

تتجلى ضبابية المشهد المحلي في علامات الإستفهام المطروحة في نشرات الأخبار وضمن العناوين الرئيسية للصحف أو حتى في تعليقات المحللين في البرامج الحوارية. ففي الوقت الحالي، يسود الغموض. لا إجابة لدى المحللين سوى “لا أعرف” وليس في التحليلات سوى حشو واستطراد..
ينطبق ذلك بشكل خاص على مسألة مصرف لبنان المركزي، حيث لم توفّر التحليلات أي سيناريو محتمل لمستقبل البنك، من تمديد واستقالات وتسيير أعمال وخلافة بالإضافة إلى مستقبل منصة صيرفة وسعر الصرف والمضاربة.
وتفادياً لمزيد من الضبابية، فلنلقِ نظرة ثاقبة على بعض الثوابت وبعض الملاحظات المبنية على الوقائع الحالية:
أولاً، لا يقع على عاتق مصرف لبنان كما لا يمكنه في الأصل، أن يحل الأزمة المالية بمفرده، بغض النظر عن هوية الحاكم. لا بد وأن يندمج عمله ضمن خطة شاملة، وهكذا خطة غير موجودة في الأصل. السلطة الحقيقية في مكان آخر، تحديداً في لبنان المحتجز كـ”رهينة”.
ومع ذلك، يمثل مصرف لبنان المركزي أيضًا ركيزة أساسية، ومهمة الحاكم هي واحدة من أصعب الوظائف. بعيداً عن لبنان، يمكننا أن نرى ذلك بوضوح في مثال الولايات المتحدة الأميركية حيث أعلن رئيس الاحتياطي الفيدرالي، عقب أزمة 2008 وعقب انهيار مصرف “سيليكون فالي” (SVB)، كيف توجب الحفاظ على المزيد من اليقظة والعمل على تحسين النظام.
ثانياً، ألا نعطي منصة صيرفة حجماً أكبر من اللازم. فهي أداة كان الغرض منها في الأصل تنظيم سوق الصرف الأجنبي والحد من الضرر. نحن نعلم أنها فشلت في بعض الأحيان قبل أن تنجح. ولكن هذا النجاح في الأشهر الثلاثة الأخيرة، كان نسبيًا تمامًا، لأن السياق سمح به مع الزيادة الملحوظة في الدولارات “الفريش” في السوق.
ثالثاً، يبدو أن حقبة ما بعد سلامة إشكالية للغاية. أولاً، لأن نواب الحاكم ليسوا على الموجة نفسها. يقال إن أحدهم يريد اللجوء لشركة “بلومبيرغ” لتشغيل المنصة، وهو أمر بعيد المنال بحد ذاته. فكيف يمكننا خصخصة مثل هذه الوظيفة الحاسمة وما هي المهمة المحددة التي يمكن تخصيصها بها؟
ومن ثم هناك الآخر الذي يريد التخلص من المنصة تمامًا، بحجة أنها غير شفافة، وهذا أمر غريب أيضًا. ففي الواقع، لا يفترض دائمًا بمصرف لبنان أن يعلن نواياه للملأ وللمضاربين. هذه هي أدوات عمله وأسلحة دفاعه، فلا يكشف عنها تماماً كما لا يكشف القائد العسكري عن الأسلحة التي ينوي استخدامها لصد هجوم.
أضف إلى هذا الطيش أن أحداً من نواب الحاكم لا يفقه كيف تعمل “صيرفة” بالضبط، عدا الحاكم سلامة، وماريان حويك بشكل عرضي، والتي تمتلك كفاءات ملحوظة، بغض النظر عن المسائل القضائية. ومع ذلك، هناك انتقاد آخر، حيث يقال أن صيرفة تفيد القليل من المحظيين الذين يكسبون أموالاً سهلة من معاملات الصرف الأجنبي.
رابعاً، تطرح مشكلة أخرى أمام خلافة الحاكم وهي تتعلق بالانتماءات السياسية “للورثة” الأربعة. مهما كثرت الأقاويل، الواقع أن رياض سلامة لم يكن يوماً رجل زعيم معين، على الأقل منذ عهد رفيق الحريري، والوضع لم يتغير. والدليل، تحميله في كل المناسبات وفي كل الخطط الحكومية دون أي تردد مسؤولية تخفيض قيمة العملة والتضخم والصعوبات المصرفية والفساد والدين العام والمجاعة في إفريقيا والاحتباس الحراري…
لا شك بأن سلامة لم يكن يوماً بمنأى عن “فيروس” التدخلات السياسية. فمن المحصّن ضدّها تماماً؟ كان لرياض سلامة أنصار سياسيون من حين لآخر، ولكنه واجه عداوات أكثر وأشخاصاً اختاروا أن يقفوا بمصافّ الأعداء.
أما مع النواب الأربعة، الأمر مختلف والانتماءات السياسية صارخة بالفعل وقد تزيد من مهمتهم تعقيداً، خصوصاً إذا اضطررنا في النهاية للجوء للحوكمة الجماعية، وذلك ليس أمراً مستبعداً، لأن لا أحد يريد تحمل المسؤولية بمفرده كما لا يرغب أحد بأن يستفرد الآخر بالحكم.. والكل ينادي “نفسي نفسي”. كما أن هذه الانتماءات السياسية تثير حساسيات الأميركيين خصوصاً في ما يتعلق بحزب الله. ولا شك بأن موافقة الأميركيين على الحاكم ضرورية لأنّ هؤلاء قادرون ببساطة على وضع مصرف لبنان على القائمة السوداء وبالتالي، قطع علاقاته مع العالم. أليس هذا ما حصل في إيران وفي روسيا وفي العراق أيضاً في وقت من الأوقات؟

مهما كثرت التحليلات، يبقى السؤال مطروحا: “كيف وصل بنا الحال لهذا الوضع؟”.. يؤمن البعض بالتوقيت أو بالصدفة أو ببعض الحتميات. ولكن هل هذه هي القاعدة؟ يؤمن كثر أيضًا بـ”بابا نويل” وبالتنانين وبحوريات البحر! الحق يقال، الواقع أبسط من ذلك بكثير:مصرف لبنان ركيزة أخرى للجمهورية ولذلك لا بدّ من هدمها!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us