مخاوف المسيحيين من التاريخ والجغرافيا


أخبار بارزة, خاص 19 أيلول, 2023

ما لا يدركه المسيحيون اليوم أن مشروع الحزب لا يساعد في تبديد الهواجس، بل يخلق مخاوف لدى المسلمين أيضاً، من أن مركزية الدولة الحالية هي وحدها ما يرضى به الحزب، لأنها تعزز وجوده وسطوته

كتب جان نخول لـ “هنا لبنان”:

لا يختلف اثنان على أن مطلب لبنان الكبير كان مسيحياً من دون حماسة مطلقة من المسلمين للحدود الحالية قبل قرن. كان المسلمون ميالين أكثر إلى الوحدة مع سوريا، فيما كان البطريرك الياس الحويك عراباً لحدود لبنان الحالية، التي ضم إليها سهول البقاع، على وقع المخاوف من مجاعة ثانية شبيهة بالتي عاشها أهالي جبل لبنان في الحرب العالمية الأولى.

ينسب للمفوض السامي الفرنسي في حينه الجنرال هنري غورو قول شهير، توجه به لبطريرك الموارنة الياس الحويك حين قال له: “كنتم كباراً في لبنان الصغير وستصبحون صغاراً في لبنان الكبير”.

كانت هواجس الديموغرافيا التي لم يعرها البطريرك أي أهمية في حينه حاضرة في ذهن المفوض السامي، مع ضم المدن الساحلية ذات الأغلبية السنية، والبقاع والجنوب ذات الأغلبية الشيعية إلى متصرفية جبل لبنان المارونية والدرزية. وفي معظم تجارب التاريخ في الشرق المعتمد بشكل أساس على الطائفية، فإن الديموغرافيا غالباً ما ترسم الخرائط مع تقدم السنوات.

بعد مئة عام، وفشل الجمهوريتين الأولى والثانية، يقف المسيحيون أمام خيارات متعددة، ولكن القاسم المشترك بينها أنها تعتبر الوجود المسيحي في خطر ضمن صيغة لبنان الكبير. يتعزّز هذا الخوف من الأرقام الديمغرافية التي قلبت المعادلات من حضور مسيحي يشكل ٥٥ في المئة في آخر إحصاء للسكان عام ١٩٣٢، إلى وجود يشكل ٣٣ في المئة كحد أقصى وفق لوائح الشطب لانتخابات ٢٠٢٢، علماً أن هذه اللوائح لا تحصي من هم دون سن الـ ٢١.

قبل أشهر، خرجت الهواجس إلى العلن بشكل واضح أكثر، بعد كلام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن دراسة تعتبر أن عدد المسيحيين في لبنان بات يشكل ١٩ في المئة من السكان. ورغم كل المحاولات لنفي الدراسة وتأكيد الأرقام نسبة إلى لوائح الشطب، وخروج شخصيات إسلامية للحديث عن “فوائد” الوجود المسيحي في لبنان، تصلبت المواقف الحادة من الجانب المسيحي، تعبيراً عن الخوف من المستقبل العددي لهم في لبنان.

مهما كانت الاقتراحات والصيغ المقترحة، ومهما تعددت تسمياتها من لامركزية موسعة إلى فيدرالية إلى تقسيم، المشكلة تكمن في مكان آخر، وهو أن حزب الله يأيديولوجيته، سبق كل المقترحات والأفكار، وتمكن من إبطال كل هذه الأفكار من خلال وجوده “المدني”.

من مصلحة حزب الله اليوم أن يبقى لبنان على ما هو عليه. فهو سيطالب بالحصول على ضمانات دستورية ووجود أكبر في الدولة مقابل التخلي عن سلاحه حين يأتي موعد التسوية الكبرى، وسيتحجج بوضعه الأكثري بين المكونات اللبنانية الأخرى. وفي مقابل نظرية “وقّفنا العد” التي اعتمدها الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبعدها نجله سعد، لم يخفف حزب الله من هواجس العدد في أي مرة، حتى أنه ذهب إلى الفصل بين الأكثرية النيابية والأكثرية العددية منذ عام ٢٠٠٥.

معطوف على ذلك أن حزب الله تصرّف على مر السنوات بشكل تكتيكي في مختلف المناطق. توسّع الوجود الشيعي في وسط جبيل، فبات جبل لبنان يتضمن حضوراً شيعياً وازناً في قسمه الشمالي، لا مفر منه عند احتساب أي تقسيمات انتخابية أو غير انتخابية في قضاء جبيل.
ويذكر الجميع المشكلة التي حصلت عند الكلام عن توسع وعمليات شراء أراض في جرود كسروان من قبل مقربين من الحزب. قلل حلفاء حزب الله في حينها من أهمية الموضوع، فيما تخوّف معارضوه من رسم حزب الله شريطاً يربط جبل لبنان بعمق الحزب بقاعاً.

في جبل لبنان الجنوبي، توسع الحزب عند الساحل الجنوبي لمدينة بيروت في قضاء بعبدا، في ما بات يعرف بالضاحية الجنوبية، المعقل الأساس لحزب الله. ورغم الأصوات التي ارتفعت بعد حرب تموز لمحاولة استعادة أراضي الأوقاف المسيحية في المنطقة، التي كانت تضم غالبية مسيحية من حارة حريك إلى المريجة، إلا أن الأمور لم تصل إلى خواتيم فعلية.

بقاعاً، يكفي النظر إلى التحول في بلدة مشغرة مثلاً على الصعيد الديمغرافي لمعرفة الواقع الفعلي للأمور في الوقت الراهن. فقد تبدلت الأوضاع في البلدة وبات الشيعة يشكلون الأكثرية فيها، بعدما كان الحضور المسيحي فيها وازناً وكبيراً.
أما في جوار زحلة، فقد بات الحضور الشيعي يشكل ما يشبه الحزام حول المدينة في العديد من القرى والبلدات، وبات عدد السكان الشيعة في القضاء ككل يتخطى العشرين ألف نسمة. أزمة صيانة شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله في المنطقة قبل سنوات خير دليل على هذا التوسع. كما يفسر هذا الأمر الاهتمام الحالي لحزب الله بالجبهة الشمالية. وتتحدث التقارير عن أن نفوذ حزب الله يتوسع في عكار تحديداً، حيث باتت له خدمات اجتماعية، ونشاطات واسعة في القرى الحدودية. لا نبني على النيات، لكن التجربة تفيد بأن أي خطوة يقوم بها الحزب ليست بريئة.
وبهذه الخطوات التي وصلت مؤخراً إلى أراضي جزين ومطارها المفترض، تتقلص مساحة “بشري جزين” التي يرسمها الجناح المتطرف المسيحي بحثاً عن دولة مسيحية. باتت هذه الدولة المفترضة مقضومة في أكثر من مكان بجزر وازنة للحزب. لم يرض الحزب بمشروع أليسار توازياً مع مشروع لينور في المتن، لأنه لا يقبل بهدم المنازل في الأوزاعي ونقل المواطنين من مكان إلى آخر. وهو لن يقبل حتماً بأي خريطة يحاول البعض رسمها بعدما باتت نقاطه في كل منطقة.

هواجس المسيحيين من التاريخ والجغرافيا واضحة في هذه المنطقة من العالم. ما لا يدركه المسيحيون اليوم أن مشروع حزب الله لا يساعد في تبديد الهواجس، بل يخلق مخاوف لدى المسلمين أيضاً، من أن مركزية الدولة الحالية هي وحدها ما يرضى به الحزب، لأنها تعزز وجوده وسطوته.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us