“السيد” ومدن الزجاج


أخبار بارزة, خاص, مباشر 5 كانون الثاني, 2022

كتب أسعد بشارة لـ “هنا لبنان” :

لو كان للتّضليل والاجتزاء والتّحريف جوائز وميداليات لنال خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله المرتبة الأولى مع فارقٍ شاسعٍ بين باقي المراتب. لا يتعلّق الأمر بسرد المظلوميّة الخادعة وادّعاء الدّفاع عن النفس واتّهام الآخرين بما مارسه محور إيران منذ العام 1979 وإلى اليوم، بل بتزييف الحقائق بأسلوبٍ يفتقد إلى الحدّ الأدنى من الإقناع والمنطق، لكأنّ قائل الكلام يتوجّه حصراً إلى جمهورٍ يبتلع الطعم بنكهة التسليم المطلق الذي لا سؤال بعده ولا حتّى استفسار.
في ادّعاء أنّ السعودية ودول الخليج اعتدت وتعتدي، تاريخٌ يقول العكس منذ ثورة تصدير الثورة في طهران. لم يمرّ الأمر إلّا وكان الأمن القوميّ لهذه الدول، يتعرّض بشكلٍ ممنهج ولا يزال، للاستهداف المنظم، تخطيطاً وتنفيذاً، وما اعتداء الخبر الذي نفّذه عملاءٌ لإيران، سوى النذر اليسير من سلسلة أعمالٍ أمنية، لم تقتصر على السعودية بل طالت الكويت (طائرة الجابرية) وأخيراً لا آخراً، تخزين السلاح في الكويت (خلية العبدلي).
في خريطة الاعتداء، لا يمكن إذاً قلب الحقائق بهذا التبسيط الشعاراتي والشعبوي، فالمعتدي واضح الهوية وكذلك المعتدى عليه، لكن يمكن تأكيد حقيقةٍ موازيةٍ، لم يعد معمولًا بها لدى دول الخليج كما في المرحلة الماضية، مفادها أنّ دول الخليج قلبت سياسة التحفّظ رأساً على عقب، ولم تعد تعمل وفق الأسلوب القديم، أيّ التكتّم وحصر النيران وحفظ الملفات، بعد كلّ اعتداء.
بعد تفجير الخبر، رفضت السعودية أن تصعّد وتحفّظت على كلّ ما يتعلّق بالتفجير، ورفضت رغم الضغوط الأميركية أن تتّهم إيران مع العلم أنّ الملفّ مثبتٌ بالتفاصيل، وبقيت السعودية على صمتها، حتى بعد تمكّنها من استرداد أحمد المغسل المتهم الرئيسي بالتخطيط للتفجير، وهو آتٍ من مأمنه في طهران إلى بيروت.
وإذا كان ما تعرّض له الخليج منذ الإطلالة الأولى للثورة الإيرانية، يشكّل غيضاً من فيض التخطيط للمسّ بهذه الدول، انطلاقاً من العراق واليمن وهو ما يجري اليوم، فإنّ النتائج على لبنان الذي يستعمل كمنصّةٍ إيرانيةٍ لهذا الاستهداف، بدأت تتحوّل إلى مآسٍ، لن يكون خطاب نصرالله بنتائجه المدمرة، آخر فصولها.
ما اختلف اليوم، أنّ استراتيجيةً جديدةً بدأت تعتمد في الردّ الخليجي على أيّ استهدافٍ إيرانيٍّ، وهذا ما لم تعتده إيران في السابق. حملة التّحالف في اليمن، افتتحت مرحلة مواجهةٍ مباشرة، لم يعد فيها مكانٌ للتحفظ أو التورية، أو شراء الوقت بأمل عودة النظام الإيراني إلى نهجٍ أكثر عقلانية، تلجم حلمه بتطويق السعودية ودول الخليج من الجنوب والشرق، وفي المضائق.
لا تنتهي مفارقات التناقض في خطاب نصرالله، فلقد كان بإمكانه تجنّب فتح الباب على محوره في موضوع داعش، كي يسمع الجواب. جوابٌ يبدأ من وثائق 11 أيلول التي كشف فيها عن تنسيقٍ عميقٍ بين إيران وتنظيم القاعدة، في مرحلة مكوث أسامة بن لادن في السودان، وكذلك حين نقل مقرّ إقامته إلى أفغانستان، وثائق تؤكد مرور منفذي 11 أيلول في إيران بدون ختم جوازات سفرهم، وثائق تعزّز الشكوك حول تنسيق القاعدة مع طهران، بلسان بن لادن نفسه، ومن مقرّه الذي اغتيل فيه على يد الأميركيين في أبوت آباد، وثائق تؤكد استضافة إيران لقيادات القاعدة، وحمايتهم وتوظيف نشاطهم في العراق وغير العراق، لا بل تؤكد أنّ زعيم القاعدة طلب عدم استهداف إيران لأنها تقدم التسهيلات، وهو الدليل الأوضح على علاقةٍ عميقةٍ وموجودةٍ فعلاً.
لا تسقط من الذاكرة مواقف نصرالله من دول الخليج والنموذج الذي تمثل. آخرها قبل فترة تهديد حمل صفة الاستعلاء وصف فيه المدن الخليجية بأنها مدن الزجاج. ربما علاج هذه المدن التي تسابق العصر، أن توضع تحت تهديد صواريخ إيران، فلا تكون شاهدةً على إفلاس وعقم المدن التي أعادتها الممانعة إلى عصر الظلام. بهذا المعنى يصبح النموذج الذي يقدّمه الخليج العربي، هدفاً على السواء لمحور إيران، ولتوأمه الإسلام السياسي، غيظاً من مدن الزجاج وبناتها، وحجباً للرؤية عن ساكني مدن الظلام بما فيها من بؤسٍ وخرابٍ وانتصاراتٍ صوتية.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us