في عيد مار مارون.. أين هم الموارنة اليوم؟!


أخبار بارزة, خاص 9 شباط, 2022

كتب طوني عطية لـ “هنا لبنان” :

“إمّا نخبة تقود بتجرُّدْ، أو نزوح إلى متحف التاريخ”! هذا ما قاله الأباتي بولس نعمان في المارونية، أي في نشأتها وطبيعتها وروحانيتها، في مسارها واختباراتها التاريخية على مدى عقود من الزمن، فهي أولى الجماعات الطائفية التي وعت باكراً إلى هويتها الوطنية وارتباطها العضوي والمتماهي حتى الإنصهار بالكيان اللبناني السابق لنشأة الدولة والجمهورية، كأنهما من معجنٍ واحد، لدرجة يمكن القول إنها الطائفة التي لبننت ذاتها بدل أن تمورن وطنها، فأخذت اسم الجبل الذي نشأت فيه ولم تحوّله إلى جبل الموارنة، أطلقوا على شفيعتهم السيدة العذراء، “سيّدة لبنان”، ونحت بطاركتهم الأرزة في تيجانهم، وسمّيَ الكتاب الذي ينظّم طقوس كنيستهم “الكتاب اللبناني”، وعقدوا أهم مجمع إصلاحي وتنظيمي في تاريخهم عام 1736 في دير سيدة اللويزة، الذي عرف بـ “المجمع اللبناني”، وأبرز ما ورد في مقرراته إلزامية التعليم ومجّانيته، سابقين بذلك الثورة الفرنسية، ومع إنشاء المدرسة المارونية في روما عام 1585 ذاع صيتهم في الغرب وانتشرت عبارة “عالِمٌ كمارونيّ”، وفي العام 1869 أثناء زيارة البطريرك بولس مسعد “اسطمبول”، إلتمس من السلطان العثماني عبد العزيز، إعفاء المسلمين اللبنانيين من الخدمة العسكرية أسوة بإخوانهم المسيحيين، فوافق السلطان، وقدّر المسلمون هذه الخدمة حقّ تقدير.

ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، حين سمحت لهم الظروف الدولية بتقرير مصيرهم في مؤتمر الصلح في فرساي، اختاروا لبنان الكبير، أي لبنان التاريخي والطبيعي والحقيقي، للعيش بشراكة مبنية على التعددية والحرية مع المسلمين وكافة مكوّنات المجتمع اللبناني، وهدّد البطريرك الياس الحويك الفرنسيين، بعدما أطلعه يوسف السودا على ما سمعه عن الجنرال غورو بعودة الحديث عن الإتحاد بين لبنان وسوريا، فقال الحويك جملته الشهيرة: “إذا مُسّت حفنة من تراب لبنان، فأنا خلال أربع وعشرين ساعة، أشعلها ثورة في البلاد”، حتى استحقوا عن جدارة “مجد لبنان”، وهذا المجد ليس ترقية ولا ترفًا أو امتيازًا، بل صليب من المعاناة والدفاع والاستبسال والمقاومة طوال مئات السنين في سبيل جوهر حياتهم وعلّة وجودهم، ألا وهي الحرية، كما قال العلّامة المونسنيور ميشال حايك إنه “لولا الحرية لما استحقوا (الموارنة) أي ذكرٍ إلا في حواشي التاريخ”، الحرية التي خبروها واختبرتهم في الكهوف والجبال وقساوة الطبيعة والمنحدرات التي حوّلوها إلى “جلول” ومدرّجات يزرعون بها الأرض ليحصدوا بها السماء.

وإن قيل عن الموارنة في السريانية “مورونوييه لو مطقسييه” أي الموارنة لا ينتظمون، فهم بالمقابل لا يخضعون ولم يعرفوا الذميّة في تاريخهم، ولم يدخلوا في أحلاف الأقليات ولم يذوبوا في بحور الأكثريات، ولم يطلبوا حصانات ولا امتيازات لا من وليّ ولا من مرشدٍ.

والأهم أنهم لم يكتبوا في قاموسهم عبارة “ما خلّونا”، فما تاريخهم سوى انتزاع الممكنات من المستحيلات، فنزعوا القمح من قلب الصخر، والسيادة من فم الأسد، ولم ينزلقوا في عهودهم إلى هذا الدرك الجهنمي الذي وصلوا إليه مع أسوأ عهدٍ حُسبَ عليهم زوراً، في خطأ تاريخي في مرحلة ضياعهم وضعفهم، في تخليهم عن دورهم وريادتهم وهذا بحدّ ذاته خسارة للبنان، فيقول الفيلسوف العالمي شارل مالك: “كلنا مسؤولون عن لبنان، كل لبناني، كل طائفة مسؤولة عنه… غير أنّ الموارنة مسؤولون بشكل خاص… فإنْ توانوا، وقعنا جميعاً في الحيرة والبلبلة، وإن حزموا أمرهم وقادوا، إشتدّت عزيمتنا”، قادوا مع بطريركهم الأول يوحنا مارون وخلفائه، مع فخر الدين وبشارة الخوري ورياض الصلح، مع كميل شمعون وفؤاد شهاب وبشير الجميل، قادوا مع المفتي حسن خالد والإمام محمد مهدي شمس الدين، قادوا مع المسلمين وبني معروف في ثورة الأرز، فكلّ من يُعلي “لبنان أولاً” ويرفع لواء الحرية، هو قائدٌ عليهم، ينجذبون إليه بصدق، لأن لبنان هو قبلتهم الوحيدة وأورشليمهم، هو معيار علاقتهم مع الآخرين، مع العرب والغرب.

أما من باع هويتهم وتاريخهم بثلاثين من الفضة، وشوّه حقيقتهم وسوّد وجههم بالصفقات والتحالفات، وقطع جسور علاقات لبنان مع العالم والاستعاضة عنها بسدود فارغة، وحماية الميليشيات وتعطيل المؤسسات والفساد في دولة، دفع حقها الآباء والأجداد من العرق والدموع والدماء ما “يعبّي” سدّ المسيلحة لسنين عديدة، فهو ليس من الموارنة، لأنه “ليس كل من قال يا رب، دخل ملكوت السماوات”.

فكم يحتاج الموارنة إلى ثورة داخلية على كلّ ذميّ وفاسد وتاجر وإقطاعي ومتسلّط ومتزعّم، إلى إعادة تأسيس، كما قال العلّامة الراحل السيّد هاني فحص: “إننا بحاجة إلى مار مارون متجدد، مسيحي حتى العظم ولبناني حتى قمة الرأس، مروراً بالقلب والعقل… اللبنانيون جميعاً بحاجة ماسة إلى قبس من الروحية التي تأسس عليها الموارنة وأدخلوها في مكونات لبنان، أما الموارنة فهم أحوج إليها من غيرهم جميعاً”.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us