اللي استحوا ماتوا!

كتب أنطوان قربان في “Ici Beyrouth“:

الصورة أبلغ من كل الكلام وتنقل رسالة مشحونة وقاسية للمسؤولين اللبنانيين، وتحديداً في ما يتعلق بالتربية والحقوق المدنية. المكان: مطار رفيق الحريري الدولي.. الزمان: السبت 24 حزيران.. أحد المسافرين اللبنانيين (ن.ز) على متن الرحلة 299 من بيروت إلى باريس، لاحظ وجود المبعوث الفرنسي إلى لبنان، جان إيف لودريان على متن الرحلة نفسها. اقترب المواطن اللبناني من مبعوث باريس، وعرّف عن نفسه وشكره على الإهتمام الفرنسي بلبنان الذي يرزح تحت وطأة هجمات القوى السياسية. وبمجرد أن حطت الطائرة، فوجئ الراكب بأن لودريان همّ بحمل أمتعته بنفسه.. كان أشبه بالعائد من رحلة حج: حمل ما معه ثم غادر مبنى المطار تماماً كأي مسافر آخر.. لا صالة شرف ولا لواء خاص من الحراس الشخصيين ولا موكب من أي حزب سياسي أو زملاء برلمانيين.

الصورتان اللتان التقطهما الراكب اللبناني تقدّمان درساً للطبقة السياسية اللبنانية برمتها. ففي بيروت، يفتتح صالون الشرف في المطار لتحية مرؤوس أو حتى تابع لمجموعة سياسية. وفي بيروت، لن يتردد السياسي بالشعور بالسخط إذا اضطر لحمل أمتعته بنفسه شأنه شأن أي شخص آخر. في لبنان، يقوم بعض السياسيين أحيانًا بتعبئة سرية عسكرية كاملة لمرافقتهم. كم عدد الجنود الذين يقضون ساعات وساعات كأدوات مرافقة لتعظيم صورة رجل ما فقط لأنه يتولى وظيفة في الإدارة العامة أو انتخب ممثلاً للأمة أو وزيراً.. أي ما يفترض به أن يعني التفرغ لخدمة البلاد والمصلحة العامة.

إذا ما عدنا لإيتيمولوجيا المصطلح (minister/minus ) سنجد أن كلمة وزير بالفرنسية مشتقة من اللاتينية وتعني “وزير/ناقص” أي ترادف “أدنى؛ مرؤوس؛ وكيل؛ كاتب”. وبالتالي، تعني الشخص المسؤول عن تقديم الخدمات للآخرين. ومن المسلم به أن مثل هذا الخادم يتشارك هالة سيده، لكن وظيفته لا تجعل شخصه مصدر قداسة.

تعكس صورتا لودريان، العائد إلى وطنه كمسافر عادي يحمل أمتعته بنفسه، كل العظمة والتواضع لخادم الدولة ولخادم بلاده.. هكذا يعود إلى الوطن ليقدم تقريراً عن مهمته، بلا طبل أو أبواق وبلا ضجيج أو تفاخر. لكن هذا الحياء غير موجود في لبنان، فمن يمارس السلطة يسمح لنفسه بتقمصها ولو كان آخر البلطجية.

أتى لو دريان إلى لبنان. وهنا، التقى بالناس وأنصت إليهم وحاورهم قبل أن يغادر وبنيته العودة. لقد أعرب كثير من اللبنانيين عن استغرابهم من الإصرار الفرنسي على دعم مرشح حزب الله سليمان فرنجية. حتى أن البعض اعتبر فيه نوعاً من الخيانة للموقف التقليدي لفرنسا، خصوصاً وأن كثيراً من المسيحيين الموارنة ينظرون إلى فرنسا على أنها “الأم الحنون”. هؤلاء يعرفون القليل عن تاريخ الدبلوماسية الفرنسية، التي لطالما خدمت مصالح مملكة فرنسا والإمبراطورية الفرنسية والجمهورية الفرنسية. لا توجد عاطفة في العلاقات بين الدول. هناك مصالح فقط. هناك أيضًا مبادئ، ومنها مبدأ الولاء للصداقة بين الشعوب. لذلك، تحرص أي دولة تحترم نفسها على ضمان عدم تشويه هذا الولاء. لكن من الوهم الاعتقاد بأن فرنسا سترضي التناقض في أهواء رعاياها المفترضين في لبنان.

لم يتمكن معسكر المعارضة من الاتفاق على مرشح، ونحن نفهم أن الرئيس ماكرون أراد ، من خلال دعمه لفرنجية، مراعاة بعض المصالح الفرنسية في إيران. شعر قسم كبير من الرأي العام اللبناني بالإهانة، لأن ظل حزب الله يعني ابتعاد سيادة الدولة اللبنانية لصالح النظام الإيراني، الذين لم يتخلوا عن تصدير ثورتهم الإسلامية. اليوم، يبدو أن الرئاسة الفرنسية تعيد توجيه دبلوماسيتها. لذلك أرسلت المبعوث الرئاسي الخاص. بالتالي، يجب أن ندرك أن لبنان لا يزال يعول على فرنسا ولا شك بأن لصبر هذه الأخيرة حدود، في السياق الدولي الغامض الذي نعيش فيه.

ومع ذلك، لا تستطيع أي قوة في العالم أن تفعل أي شيء، لأن قواعد اللعبة مشحونة في لبنان. قانون الانتخاب لعام 2018 يجعل لبنان غير قابل للحكم. تظل الدولة خاضعة لما أسماه الجنرال ديغول، بازدراء عميق، “ديكتاتورية الأحزاب”. ويبقى موضوع الأزمة اللبنانية وجودياً لأنه يتعلق بنجاة الكيان اللبناني. ولا بد على الفصائل البرلمانية المتنافسة، ولكن غير الخاضعة لاتفاق أمل وحزب الله، أن تتعاضد وتتضامن للقيام بواجبها من أجل كسر الجمود وذلك من خلال: انتخاب رئيس، حتى لا تضطر للذهاب نحو تسوية مخزية كما حصل في اتفاق الدوحة.

واليوم، نقف جميعاً أمام ثلاثة سيناريوهات للحلحلة:

• وضع النرجسية جانباً لصالح تطبيق الإجراءات الدستورية حرفياً.

• تجاهل النصوص الموجودة والتوجه لحوار يمهد لتسوية مهينة خارج لبنان أي الاستسلام أمام إيران.

• أو ترقب قفزة نحو المجهول.

صورة لودريان بليغة في التعبير عن عظمة ونبل من يخدم بلاده. ومع الأسف، يبدو أن عدداً من محاوريه اللبنانيين يفهم الخدمة العامة ليس كخدمة يقدمها المرء ولكن كسلطة يمارسها ويختزلها بشخصه. لذلك، يعول هؤلاء على التفاخر واعتماد مظاهر السيطرة أي إذلال المحاور. لودريان قدّم مثالاً حقيقياً في الحقوق المدنية، والحقّ أن بعض محاوريه لا بد أن يشعروا بالخجل من أنفسهم.. ولكن الخوف يكمن في أن “اللي استحوا ماتوا”.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us