موازنة “الورقة والقلم”: أرقام وهميّة وضرائب في زمن الانكماش


أخبار بارزة, خاص 26 أيلول, 2022

كتب إيلي صرّوف لـ”هنا لبنان”:

بِسَوط الانتقادات اللّاذعة والشّعبويّة و”التّلطيشات”، جَلَد النّواب مشروع قانون الموازنة العامّة لعام 2022، على مدى يومين متتاليين، وكأنّهم لم يشاركوا مباشرةً أو عبر زملائهم وأعضاء كتلهم في عمليّة صياغة المشروع. المستفِزّ أنّ موازنة الـ2022، تُدرس قبل ثلاثة أشهر فقط من انقضاء العام، بأرقامٍ لا تحاكي الواقع وإيراداتٍ وهميّةٍ، وباستخفافٍ مقرفٍ بمعاناة الشّعب والأزمة الطّاحنة الّتي يتخبّط بها.
معظم الّذين شاركوا في حفلة النّفاق التّلفزيونيّة، أَجمعوا على أنّ الموازنة التّي أتت خارج المهلة الدّستوريّة والّتي لم يسبقها قطع حساب، تفتقد إلى البنود الإصلاحيّة والرّؤية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، في ظلّ انهيار قيمة اللّيرة اللّبنانيّة وارتفاع نسب الفقر والبطالة والعجز. كما اعترضوا على تضمُّنها مجموعةَ رسوم وضرائب إضافيّة، ستثقل كاهل المواطنين الرّازحين أساسًا تحت أعباء جمّة، كرفع الضّريبة على الدّخل والضّرائب الدّاخليّة على السّلع والخدمات.
جهابذة السّياسة والاقتصاد قرّروا أيضًا تمرير عدّة مواد من ضمن مشروع قانون الموازنة، لتفادي طرحها عبر تشريعات منفصلة. فقد كشفت لجنة المال والموازنة في تقرير لها، عن تضمُّن المشروع مواد دخيلة على نطاق قانون الموازنة، كما حدّدته المادّة الخامسة من قانون المحاسبة العموميّة (ﻗﺎﻧﻮن اﻟﻤﻮازﻧﺔ هو اﻟﻨّﺺّ اﻟﻤﺘﻀﻤّﻦ إﻗﺮار اﻟﺴّﻠﻄﺔ اﻟﺘّﺸﺮﻳﻌﻴّﺔ ﻟﻤﺸﺮوع اﻟﻤﻮازﻧﺔ. ﻳﺤﺘﻮي هذا اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻋﻠﻰ أﺣﻜﺎم أﺳﺎﺳﻴّﺔ ﺗﻘﻀﻲ ﺑﺘﻘﺪﻳﺮ اﻟﻨّﻔﻘﺎت واﻟﻮاردات، وإﺟﺎزة اﻟﺠﺒﺎﻳﺔ، وﻓﺘﺢ اﻻﻋﺘﻤﺎدات اللّازﻣﺔ ﻟﻺﻧﻔﺎق، وﻋﻠﻰ أﺣﻜﺎم ﺧﺎﺻّﺔ ﺗﻘﺘﺼﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻟﻪ ﻋﻼﻗﺔ ﻣﺒﺎﺷﺮةً ﺑﺘﻨﻔﻴﺬ اﻟﻤﻮازﻧﺔ).
في هذا الإطار، أوضح الخبير الاقتصادي الدّكتور إيلي يشوعي، لـ “هنا لبنان”، أنّ “في هذه الموازنة، يتمّ تحميل النّاس أعباء الانهيار المالي”، شارحًا أنّهم “عندما يرفعون تقريبًا الرّسوم على كلّ الخدمات، ويفرضون الضّرائب بهذا الشّكل الكبير، لا سيّما في وقتٍ يعاني فيه الاقتصاد من انكماشٍ حادٍّ، وبظلّ أزمةِ فرص عملٍ وإنتاجٍ وأجورٍ… فهذا يدلّ على أنّهم يحمّلون النّاس أعباء كلّ الانهيارات الّتي هم مسؤولون عنها، ولا يكلّفون أنفسهم عناء التّحقيق فيها أو إجراء المحاسبة اللّازمة”.
لم يعُد خافيًا أنّ إقرار الموازنة هو ضمن الشّروط الّتي فرضها صندوق النّقد الدّولي لإقراض لبنان، على اعتبار أنّها جزءٌ من عمليّة الإصلاح المطلوبة، فقرّر مَن هُم في الحكم تمرير موازنةٍ ولو ضرائبيّة، إرضاءً لرغبات الصّندوق. في هذا السّياق، تساءل يشوعي: “الآن تذكّر صندوق النّقد أنّ لبنان في أزمةٍ ويحتاج إلى إصلاحاتٍ؟ “يعيش ويفوق”.
وذكّر بـ”أنّني شخصيًّا منذ عام 1993، مدركٌ وواع للنّتائج المترتّبة جرّاء كلّ السّياسات النّقديّة والماليّة (طريقة وضع الموازنات والإنفاق الرّسمي)، والميثاقيّة الّتي بُنيت عليها الدّيمقراطيّة التّوافقيّة وحكومات الوفاق الوطني (تقاسم المغانم والحصص وتوزُّع المنافع)، وتعطيل الإنتاج والاستثمار وإغراق الخزينة بالدّيون…”.
وسأل مستغربًا: “لماذا كنت أرى كلّ ذلك منذ أعوامٍ، في حين أنّ الصّندوق لم يتنبّه لهذه الأمور، مع العلم أنّه يجري تقييمًا سنويًّا للأداء الاقتصادي والمالي والنّقدي للدّول وبخاصّةٍ النّامية منها؟ لماذا هُم لم يريدوا أن يروا أيّ عيبٍ أو خطأٍ كان يُرتكَب في لبنان على كلّ هذه الأصعدة والمستويات؟”.
وأكّد الخبير الاقتصادي أنّ “لا ثقة لديّ بصندوق النّقد، ولو كنت مسؤولًا لا أتعاطى معه. لبنان لديه موجودات وحلول أخرى، لكنّه يحتاج إلى حكّامٍ من نوعٍ آخر، كي ينجحوا بتطبيق هذه الحلول، من دون أن يسلّموا رقابهم ورقاب اللّبنانيّين لأيّ مؤسّسةٍ ماليّةٍ دوليّةٍ تتحكّم بنا من جديد، وتفرض شروطًا وأعباء معيشيّة علينا”. وبيّن “أنّنا كنّا بحاجة إلى هذه المؤسّسات عندما بدأت الأخطاء تُرتكب في لبنان، لكنّها لم تحرّك ساكنًا. فلماذا الآن تريد إجراء إصلاحات؟”.

في جلسته يوم 16 أيلول الحالي، وفي إطار درس وإقرار بنود مشروع الموازنة، وافق المجلس النّيابي على زيادة رواتب موظّفي القطاع العام والعسكريّين والمتقاعدين والمتعاقدين ثلاثة أضعافٍ، وذلك ضمن المساعدات الاجتماعيّة. خطوةٌ تلقّفها المستفيدون منها بالتّرحيب، على الرّغم من أنّها قد تبقى حبرًا على ورق، في ظلّ غياب مصادر التّمويل.
ورأى يشوعي أنّهم “أَجروا حساباتٍ على الورقة والقلم، ووَجدوا أنّ لديهم نفقات بنحو 47 ألف مليار ليرة لبنانيّة، وإيرادات بحدود الـ40 تريليون ليرة، وبالتّالي العجز يقدَّر بنحو 7 آلاف مليار. على “القلم والورقة”، يمكنهم القيام بما يريدون، فيقولون مثلًا زدنا الضّرائب، رفعنا الأجور والرّسوم على الطّابع المالي والرّسم الجمركي على العديد من السّلع المستورَدة، زدنا الرّسوم العقاريّة والرّسوم على إشغال الأملاك البحريّة والمرافئ والمطار وجوازات السّفر… لكن في الواقع أين الإنفاق الاجتماعي والصحّي في هذه الموازنة؟ هو شبه غائب”.
ولفت إلى أنّ “ميزانيّة الجامعة اللّبنانيّة متواضعة جدًّا، كما أنّهم وَعدوا بمساعدة الأُسر المتعثّرة والأكثر حاجة، فأين المساعدات؟ هناك عقباتٌ كثيرةٌ أمامها”، مركّزًا على أنّ “السّياسة الفعليّة ليست سياسة الحرتقات والكيديّات والترويكا والمحاصصات، بل هذه تجارة السّياسة. المصالح الاقتصاديّة للدّول هي الّتي تتحكّم بسياساتها الخارجيّة والدّفاعيّة والعسكريّة والاجتماعيّة والدّاخليّة وغيرها”. ووَجد أنّ “هذه دولة مافيات سياسيّة. لقد بنوا مملكةَ إبليس على أرضٍ مقدّسةٍ”.
كما أشار إلى أنّ “هذه موازنة جداول (واردات ونفقات)، نسخوها من الموازنة السّابقة، وخلصوا نظريًّا إلى أنّ العجز فيها هو بحدود الـ7 آلاف مليار ليرة، وأرسلوها إلى مجلس النّواب”، واصفًا خطّة التّعافي الاقتصادي المالي للحكومة، بـ”خطّة التّعاسة”.
من أبرز البنود المطروحة في موازنة 2022، هو سعر الدّولار الجمركي الّذي لا يزال يُحتسَب على دولار 1500 ليرة، وسعر الصّرف الّذي سيعتمَد. وكان قد أفاد رئيس لجنة المال والموازنة النّائب ابراهيم كنعان، بأنّ “السّيناريوهات المعدَّة من قبل وزارة المال لأسعار الصّرف ما بين 12 ألف و16 ألف و20 ألف ليرة، لن تؤمّن الواردات المطلوبة، ما يفقد الموازنة التّوازن، لأنّ الواردات لا تكفي حتّى لتغطية الرّواتب والأجور والمساهمات المخصّصة للرّواتب والأجور والمنافع الاجتماعيّة وخدمة الدّين”.
فإلى أيّ مستوى يجب رفع الدّولار الجمركي، كي يتناسب مع الوضع الحالي؟ يجيب يشوعي “أنّني ضدّ الارتفاع الكبير بالأسعار في زمن الانكماش”. وشدّد على أنّهم “يقولون للناس عليكم دفع المزيد من الضّرائب والرّسوم، في حين أنّ التّجار يشترون الدّولار عبر منصّة “صيرفة”، ويبيعون البضائع على أساس سعر الصّرف في السّوق السّوداء!”.
لا شكّ أنّ الموازنة تُعيد الانتظام المالي العام، وهي خطوة ضروريّة في بلد طبيعي، إلّا أنّ واضعيها حوّلوها إلى مجرّد فرصةٍ جديدةٍ لفرض المزيد من الضّرائب؛ من دون خدمات مقابلة. الموعد الجديد لإقرار الموازنة، هو اليوم الإثنين، بما يتناسب مع جدول “صاحب الواجبات”، رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. فهل النّواب الّذين طيّروا النّصاب الأسبوع الماضي، سيُعيدون الكَرّة في جلسة اليوم، أم أنّ التّصويت سيكون مؤمّنًا لصالح الموازنة؟

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us